العبد مفهوم مشتق من العبادة ، وهي الطاعة المطلقة مع الخضوع والاستسلام والتذلل ...وابن منظور: يرى أن أصل العبودية الخضوع والتذلل ... والتعبد التنسك ، والعبادة الطاعة . و الأنبا ري يقول :" فلان عابد وهو الخاضع لربه المستقيم المنقاد لأمره ".
أما فلاسفة الإسلام ، كنصر الدين الطوسي والكندي وابن سينا والفارابي ... فالعبادة عندهم هي كمال المعرفة الحقة بالله ،ولا تتم إلا بالإخلاص الكامل مع الخضوع والانقياد التام لله سبحانه وتعالى .
أرى أن لفض العبد متحد يطلق على الإنسان بمفهومه المجرد العام كمخلوق لله ، حرا كان أ و مملوكا ، ذكرا أو أنثى ، لأن الخلق كلهم عبيد الله ، طوعا أو كرها ، لقوله تعالى :{ إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمان عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا .}( سورة مريم آية 93 - 94 - 95) وقوله :{ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين }( سورة الحجر آية 42 ) وقوله :{ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا } (سورة الإسراء آية 65) . وفي كلامنا اليومي العادي كثيرا ما نستعمل جملة " يا عباد الله " ونقصد بها "أيها الناس ".و العبودية لا تتم في تصوري إلا إذا توفرت فيها ثلاثة شروط هي : هي إيمان وتصديق قلبي، واعتراف قولي ، ثم عمل بالجوارح ، يترجم النية والقول ، إلى واقع . وهي حاجة إنسانية فطرية ،كالحاجات البيولوجية تماما ، مرتبطة أساسا بالوجود الإنسي والجني ، لقوله تعالى :{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين }( سورة الذاريات آية56) . إن الإنسان إذن جبل على العبادة ، فهي جزء من تكوينه البيولوجي والشخصي ، لا يمكن الاستغناء عنها ،لأنها الغاية ، التي من أجلها خلق ، وإن انحرف الإنسان ، ولم يعبد الله ، فهو حتما سيعبد غير الله. ( شيطان ، أوثان ، هوى ، نفس ، مادة حزب ، إيديولوجيا ، علب فكرية ... ) .
إن العبودية المرتبطة بالامتثال التام لأوامر الله ونواهيه وشرائعه ، هي التي تحرر الإنسان من عبودية الإنسان ، ومن كل أشكال العبوديات الأخر. كما أن طبيعتها ونوعيتها هي التي تحدد نوع العلاقة بين الإنسان والله ، وبين الإنسان والإنسان ، وبين الإنسان والكون .فكلما تخلص الإنسان من تأثير النفس وهواها ، ووسوسة الشيطان ومن يدور في فلكه ، وأخلص لسلطة الله مختارا ، غير مكره ، ولا مرغم ، وامتثل لها امتثالا مطلقا لا يشوبه شك أو ريب ، إلا وأصبح عبدا حرا ،ونال شرف العبودية لله عز وجل .لأن كلمة عبد في القرآن الكريم ، مفردة كانت أو جمعا إذا أضيفت إلى الله سبحانه وتعالى أفادت التكريم والتشريف والرضى التام من الله على العبد كما هو واضح ، في قوله تعالى { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصر } (سورة الإسراء آية 1) ، وقوله { الحمد لله الذي أنزا على عبد الكتاب ولم يجعل له عوجا } ( سورة الكهف آية 1) ، وقوله تعالى { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم } ( سورة الحجر آية 49 ) ، وقوله تعالى أيضا { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم } ( سورة الزمر الآية53 ) ،وقوله تعالى { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار } (سورة ص من آية 45 إلى 47 ) .{ ...إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب } (سورة ص آية44) إن الآيات التي تمجد العبودية لله ، والواردة في هذا المعنى كثيرة ، وكلها تدل على أن أفعال العبد صادرة عن إرادته الحرة الغير خاضعة لأي تأثير خارجي أو إرادة غريبة . فأنا حين أختار عبادة الله ، فأنا أمارس حرية الاختيار، والله سبحانه وتعالى أعطاني فرصة الاختيار، وحرية الاختيار .كما يثبت ذلك القرآن الكريم في كثير من الآيات كقوله تعالى :{ إنا هديناه النجدين إما شاكرا وإما كفورا }. وقوله :{ إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا }. ( سورة الإنسان آية 3 ) وقوله : { ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين ...} ( سورة البلد آية 10).... وعندما أختار عبادة الله وطاعته ، أكون قد اخترت الفطرة ، واستجبت لمؤثر داخلي،هو ما يمكن أن أسميه بغريزة التعبد .أما عندما أختار العصيان والتمرد على الله سبحانه وتعالى ، فسأكون مخالفا للفطرة ، وخاضعا لمؤثر خارجي ،طارئ ، يسترقني ويستعبدني ، قد يكون هو النفس أو الهوى أو الشيطان ،أو المال ... وهذا لن يخرجني من دائرة العبودية لله كرها وقهرا لا طوعا ، لأن الخلق كلهم عباد الله ، وأنا مخلوق لله ، وكل مخلوق لا ملجأ له من الله إلا إليه ، أحب أم كره . أما إذا اخترت التمرد على الشيطان والنفس وعصيانهما ، فسأكون أيضا قد اخترت الحرية ومارستها برفضي للاستعباد، وعدم الخضوع لتأثير مختلف القوى الباطنية ، كالدوافع الغريزية الغير مهذبة ، والأهواء على اختلافها ، والقوى الظاهرية ، سواء كانت مادية في شكل فرد أو مجتمع، أو فكرية في شكل فلسفة أو إيديولوجية أو سياسة واقتصاد.. . فأنا إذا حر مرتين : (1) حر عندما أقبلت على الله وأطعته وأسلمت أمري إليه ، واخترت أن أكون عبدا له وحده لا شريك له ، (2) وحر عندما تمردت على نفسي الأمارة بالسوء ، والشيطان ومن والاهما . لإدراكي أن الاستعباد لغير الله ، مذلة وتحقير وصغار عند الله ، وعند رسوله صلى الله عليه وسلم ،وصدق الله العظيم إذ يقول : { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولائك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون } سورة هود آية 15 -16 ). وهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم ، يدعو على كل مشرك لا يؤمن بالله ، أو يعبد غير الله ، فهم مشركون بكل المقاييس ، آثروا الدنيا وزينتها على الآخرة وجنتها . فقال :[ تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتفش ... ] ( الحديث أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط ج 3/94 برقم الحديث 2595 ) . إن المشركين أطاعوا غير الله ، فأضاعوا حرية الاختيار، التي تميز الإنسان ككائن عاقل ، مكلف ومسؤول عن أفعاله الإرادية ، وسقطوا تحت نير الاسترقاق والاستعباد المزدوج :
(1) عبيد لله رغم أنفهم ، مكرهين لا طائعين ، بحكم الخلق والإيجاد .
(2) عبيد لغير الله بحكم العبادة والانقياد لغير الله .
نستنتج من كل ما سبق ، أن العبودية لله حرية مطلقة ، لا يمكن أن تتحقق ، إلا في ظل العبودية الاختيارية ، الخالصة لله ، والصادرة عن عقل وقلب المؤمن الصادق مع ربه، دون إكراه أو إرغام ، ويترجم هذا قوله تعالى :{ من عمل صالحا من ذكر وأنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } (سورة النحل 16 ) . أما العبودية لغير الله ، فهي استرقاق واستعباد قائم على الجبر والقسر، صاحبها عبد مملوك لنفسه وقرينه وهواه ، حياته نكدة ، وأيامه اكتئاب مزمن ، وقلق مستمر...ونهاية مأساوية .وصدق الله العظيم إذ يقول : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} ( سورة ط 20) .