السلوك المدني - حميد بن خيبش
يعرف المشهد التربوي بالمغرب حراكا ملفتا يروم تحديث المنظومة التعليمية ,وتغذية مكوناتها بصيغ ومشاريع جديدة لمسايرة التحولات الوطنية و الكونية ,وتمكين المدرسة من مواصلة دورها " حراسة القيم , تحصين الهوية , التنشئة الاجتماعية..." في ظل قسوة المتغير السياسي و الثقافي و الاجتماعي .
ومن بين الأوراش المستعجلة التي حظيت باهتمام ملفت تلك المتعلقة بإرساء منظومة قيمية -أخلاقية تؤهل الطفل لتبني سلوكيات محددة سواء في علاقته مع الآخر أو مع مؤسسات الدولة و المجتمع ,كما تحصنه ضد نزوع العولمة نحو اقتلاع الخصوصيات بدعوى توحيد القيم ,وتكريس مفهوم المواطنة العالمية !
فعمدت وزارة التربية إلى إدراج مادة تعليمية جديدة تحمل اسم " التربية على حقوق الانسان" ,وتم الترويج لمصطلحات و مفاهيم جديدة في الوسط المدرسي كالكرامة , و الحرية , و التسامح , و الديموقراطية ,و تكافؤ الفرص .. إلا أن هذه المبادرة ظلت متعثرة بسبب غياب التكامل بين مكونات المقرر الدراسي , فتحولت إلى مادة تلقينية تكتفي بتمرير المباديء و المفاهيم دون القدرة على بلورتها في السلوك اليومي للمتعلم . مما استدعى التفكير في مقاربة عملية تتخطى حاجز اللفظية والتلقين نحو بلورة قابلة للرصد فظهر في أدبيات وزارة التربية مفهوم "السلوك المدني ".
يحيل هذا المفهوم على مرجعيات متعددة ومتداخلة ( قانونية , سياسية , فلسفية ) تثير شيئا من اللبس حول دلالته التربوية , كما تحد من القدرة على تمثله ,وبالتالي أجرأته من لدن الفاعل التربوي .
فهل يتعلق الأمر بمعيار أخلاقي يتم من خلاله تعويد الطفل على التحلي بقيم و فضائل معينة تؤهله للاندماج الأمثل في مجتمعه ,وتبني سلوكات واعية و مثمرة في علاقته مع الآخر ؟ أم الغاية هي حمله على الانصياع لمجموعة من الضوابط القيمية و القانونية التي يتحكم في انتقائها الهاجس السياسي في المقام الأول ,وتعويده على الانقياد و الإذعان لسلطة الواجب والخيار الجماعي ؟
تحيل التعريفات اليسيرة لهذا المفهوم على طابعه التركيبي , فهو اولا سلوك : أي ممارسة فردية داخل إطار اجتماعي معين , وهو ثانيا مدني : أي مستوعب للواجبات التي يفرضها الانتماء لمجتمع إنساني تم تحديث بنياته وفق تصورات فلسفية وسياسية و اقتصادية محددة .
أما الغايات المرجوة من إدماج هذا السلوك في الفضاء المدرسي فتتمثل في إرساء ثقافة المواطنة, و الوعي التام بالحقوق و الواجبات , وترسيخ قيم التعايش و التسامح و الحق في الاختلاف , والتوافق الايجابي مع الآخروهو ما يدفعنا إلى التساؤل حول الحيز الذي يشغله هذا المفهوم في المنظومة التربوية , بمعنى آخر : هل السلوك المدني مدخل من مداخل التربية الأخلاقية أوالتربية على القيم , أم أنه البديل المقترح لسد الخصاص القيمي داخل هذه المنظومة ؟
يبدو الخيار الأول ضروريا وملحا أمام تآكل الحس الوطني ,وتراجع هيبة القانون و الدولة خصوصا في أوساط المراهقين و الشباب , وشيوع ثقافة العنف و الإقصاء و الكراهية , مما يمنح الحق لمقاربة السلوك المدني في تحصين الهوية و الذات الوطنية ,وإشاعة ثقافة السلم و الحوار ,والتصريف الحضاري للقناعات والتوجهات .
أما الخيار الثاني , و الذي نرجو ألا يكون هو المقصد , فيحمل في طياته بوادر أزمة مقبلة لعل أولى شراراتها هو التباين الواضح بين الرافد الغربي ( العلماني) الذي يستمد منه السلوك المدني أسسه و مقوماته , و بين مجتمع تعود على صوغ قيمه و أخلاقه وفق المرجعية الإسلامية.
إن السعي الجارف للعولمة نحو تذويب الهويات و الخصوصيات بدعوى توحيد القيم , وإضفاء البعد الكوني على العلاقات الانسانية يفرض على دول العالم الثالث الواقعة "تحت الأسر" حتمية المواءمة بين خيار الانفتاح المشروط ,وضرورة صون هويتها و مقوماتها الحضارية لأن العالم " يعيش اليوم حرب قيم , ومن يستطيع أن يفرض قيمه يكون الأقوى حضاريا" (1) .
واعتبار المدرسة المغربية في وضعها الراهن مسؤولة عن ترسيخ السلوك المدني هو ضرب من المجازفة أمام الاختلالات التي يعيشها الوسط المدرسي و التي يمكن إجمالها كالآتي
- الاستقطاب الملفت للمتعلمين من قبل وسائط معرفية جديدة " ألعاب الفيديو, الانترنيت.." تتسم بالجاذبية و المتعة و تلبية حاجات الطفل خصوصا النفسية منها, مما ولد قيما غريبة داخل الفضاء المدرسي " و المجتمع عامة" أدت إلى بروز انحرافات خطيرة كالهدر المدرسي و العنف و انتشارالمخدرات في صفوف المتعلمين .
- ا نكماش أدوار المدرس وتراجع حضوره الرمزي داخل المشهد التعليمي ودنوه من حافة الاحتراق النفسي (2) لأسباب عديدة منها : شعوره بالعزلة وغياب الدعم الاجتماعي , و النظرة المتشككة لولائه
وأدائه , والاستهتار بآرائه وخبراته عند إحداث تغييرات في العملية التعليمية , وتكبيله بسلطات بيروقراطية متربصة به وبعمله , و اهتزاز صورته في الإعلام الجماهيري مما يفقده الثقة بنفسه , ويدفعه إلى تبني أداء نمطي تغيب فيه الدافعية و الحماس(3) .
- هيمنة الطابع التلقيني/ المعرفي على الممارسة الصفية , وانبناء المقرر الدراسي وفق تصور جزئي يكرس حدودا وهمية بين المواد التعليمية .
- تراجع دور الأسرة في التنشئة تحت الضغوط الاجتماعية و الاقتصادية ,وعجزها عن تدبير المشاكل النفسية للأطفال بسبب غياب الوعي , و إلقاء العبء التربوي برمته على عاتق المدرسة.
- الحضور الباهت لجمعية آباء و أولياء التلاميذ التي تكتفي في جل مدارسنا بتكريم المتفوقين عند اختتام كل موسم دراسي .
أما بالنسبة لإشراك المجتمع المدني ووسائل الإعلام في مهمة تنمية السلوك المدني فإن الأمر ينبغي أن يتجاوز التبني الشعاري و الموسمي لهذه المبادرة نحو البحث, بشراكة مع مؤسسات التربية و التكوين, عن صيغ تنشيطية ملائمة , وتفعيل آليات تتبعها ورصدها , بالإضافة إلى تثمين المشاريع الفردية و المؤسسية التي تخدم أهداف هذه المبادرة .
*********
إن الوعي السائد بالظرفية المتحكمة في مبادرة السلوك المدني , و التبرم المتزايد من الأداء التعليمي داخل المدرسة المغربية , بالإضافة إلى الهبوط الحاد في مؤشر الدافعية سواء لدى المعلم أو المتعلم , يدفعنا إلى الجزم بأن كل مبادرة لاتأخذ بعين الاعتبار راهن المشهد التعليمي واحتياجاته فستظل حبيسة الخطب و الشعارات و المذكرات !
إن الرهان الأول و الضامن لإنجاح اي مبادرة هو ترسيخ القناعة بجدوى المدرسة العمومية في عالم يجنح أكثر نحو المدارس الافتراضية !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) : المهدي المنجرة , عولمة العولمة منشورات الزمن ع18 ص:68
(2) : الاحتراق النفسي : مفهوم حديث استخدمه "فرويدنبرجر" في أوائل السبعينات للإشارة إلى الاستجابات الجسمية و الانفعالية لضغوط العمل لدى العاملين في المهن الانسانية الذين يرهقون أنفسهم في السعي لتحقيق أهداف صعبة .
(3) : د. محسن خضر, الاحتراق النفسي للمعلم العربي , مقال منشور بالانترنيت.
منقول