اشكركم على مروركم
واعتذر عن الخط فها هو ذا الموضوع بالتعذيل المنسب
اتمنى لم الاستفادة
اضيف ان الموضوع منقول[i]
البلاغة ومعناه
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:
نقول: الجواب على السؤال هو:
الكلام مؤسس من كلمة، وفصاحة الكلام هي فصاحة الكلمة التي يجب أن تكون جارية على القياس الصرفي، وأن تكون مألوفة الاستعمال بين النابهين والكتاب والشعراء، وأعتقد أنها تقول: وأصحاب الذوق السليم، والذوق السليم هو العمدة.
الأخ الكريم في سؤاله الأول: والسؤالان هما: ما الفرق بين فصاحة الكلمة وفصاحة الكلام؟
والسؤال الثاني: هل يمكن أن يكون الكلام فصيحًا وبعض كلماته أعجمية أو عامية؟
الإجابة الأولى:
يقول: الفرق بين فصاحة الكلمة وفصاحة الكلام:
أن الكلمة الفصيحة يجب أن تكون جارية على القياس الصرفي وأن تكون خالية من الغرابة، وأن تكون سالمة من تنافر الحروف، وأما الكلام الفصيح فيجب أن يسلم من ضعف التركيب، ويسلم في تركيبه من تنافر الكلمات، ويسلم من التركيب اللفظي والمعنوي.
التركيب أو التعقيد؟
التركيب مكتوبة.
لعله يريد التعقيد اللفظي والمعنوي.
التعقيد اللفظي والمعنوي، فالكلمة يُراعى ذلك في حروفها، والكلام يُراعى ذلك في كلماته، فهل هذه إجابة صحيحة يا شيخ؟.
هي قريبة من الصواب لأنه ذكر شروط الكلمة الفصيحة وهذا صحيح، وذكر -أيضا-ً شروط الكلام الفصيح بشكل عام صحيحة، لكنه يشترط في فصاحة الكلام نفسه أن تسلم كلماته -كل واحدة على حدة- من العيوب القادحة فيها من تنافر حروفها ومن غرابتها ومن مخالفتها للقياس الصرفي فيكون بذلك الكلام تامًا.
يجيب على السؤال الثاني:
وهو هل يمكن أن يكون الكلام فصيحًا وبعض كلماته أعجمية أو عامية؟
ويقول الإجابة:
لا... لا يمكن أن يكون الكلام فصيحًا وبعض كلماته أعجمية وعربية، بل ذلك قدح في فصاحته.
صحيح، هذا قدح في فصاحته، ولذلك يبقى غير فصيح وغير واضح الدلالة، لابد من أن تكون الكلمة عربية مأثورة عن العرب جارية على سننهم، غير غريبة ولا مخالفة لقياس صرفهم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فلقد سبق الكلام عن الفصاحة وعن الكلام الفصيح، ثم ذكرنا -أيضا-ً فصاحة المتكلم ،وهي يمكن أن يقال: أنها ملكة يقتدر بها على تأليف كلام فصيح في أي موضوع كان.
(ملكة): أي موهبة أو قدرة أو مهارة عند المتكلم من خلالها يقتدر على التأليف أو على الكلام أو على البيان في أي موضوع كان.
ثم نشرع حاليًا في الكلام على البلاغة من حيث معناها اللغوي ومن حيث معناها الاصطلاحي، ومعناها اللغوي -حقيقة- مأخوذة من "بلغ"، يقال: سار فلان من كذا فبلغ كذا، أي وصله وانتهى إليه.
والبلاغة تعني في اللغة: الوصول والانتهاء إلى الشيء، منه قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ﴾[الكهف: 93] أي وصل وانتهى، ﴿ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ﴾ [الطلاق: 3] أي: منهيه، وغير ذلك مما يدل على البلوغ والانتهاء.
ومناسبة المعنى اللغوي للمعنى الدلالي الاصطلاحي: هو أن المتكلم يبلغ ما في نفسه من معاني إلى الآخرين وينهيها إليهم في أقصر عبارة وأجود أسلوب، فإذا بلغ مراده إلى الآخرين من غير غموض ولا لبس كان عندئذ بليغًا.
ولعل الخطيب القزويني في كتابيه "التلخيص والإيضاح" عرف البلاغة قائلاً -عندما عرف بلاغة الكلام- قال: «إنه مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحة ألفاظه».
فتبين بهذا أنه لابد للبلاغة من شرط أساس وهو: فصاحة ألفاظه مفردة ومركبة، مفردة: خاصة بكل مفردة، يعني تخلو من القوادح والعيوب القادحة فيها، و-أيضا-ً إذا تألفت أو تآلفت ألفاظه لابد أن تخلو ألفاظه من قوادح الفصاحة مجتمعة من ضعف التأليف ومن القلق ومن التعقيد معنويًا كان أو لفظيًا، فإذا صحت ألفاظه وفصحت ووظفها المتكلم في المقام عندئذ كان كلامه الفصيح بليغًا، لابد لهذا الشرط، أما إذا كان فيه قادح من قوادح الكلمة، أو قادح من قوادح فصاحة الكلام فلا يعد، أو يكون هناك خارم من خوارم البلاغة، فإنه ينال من بلاغة ألفاظه، فلابد أن يكون الكلام أولاً فصيحًا في مفرداته وفي مركباته ثم يوظف بحسب المقام، إذا اقتضى المقام إطنابا فإن البلاغة في الإطناب، وإذا اقتضى المقام إيجازا فإن البلاغة في الإيجاز، وإذا اقتضى المقام قسمًا أو توكيدًا فإن البلاغة بأن يقسم أو يؤكد المتكلم.
.. وقف بين القوم يا شيخ وكان الزمن قصيرا جدًا، فعندئذ البلاغة في الإيجاز.
نعم، أما إذا كان القوم محتاجين إلى التوسعة والتفصيل والاستشهاد، فإن البلاغة ليست في الإيجاز عندئذ ليست البلاغة في الإيجاز، إنما البلاغة في التفصيل والتوضيح والاستشهاد والبحث والعرض، فإذا أوجز في هذا لم يكن موفقًا ولم يكن بليغًا، كما أنه إذا كان في مقام ينبغي أن يوجز فيه فأطنب لم يكن عندئذ موفقًا ولا بليغًا، فالمقام عندئذ هو الحكم والفيصل في هذه المسألة، إذا اقتضى المقام الإيجاز أوجز، أما إذا اقتضى المقام الإطناب أو التفصيل ففصل وأطنب، و-أيضا-ً هناك دواع في داخل الكلام أو في المقام نفسه من حيث الأمر أو النهي أو التوكيد أو القسم أو التعجب أو غير ذلك، كذلك هي بذواتها هو محتاج إلى أن يتكيف معها، إذا اقتضى الأمر توكيدًا لابد أن يؤكد، أما إذا اقتضى الأمر أن يساق الكلام غير مؤكد فالبلاغة عندئذ فيه.
مثلاً: إنسان لا ينكر قيام زيد، فإذا جئت وقلت: والله إن زيدًا لقائم، لقال أنت مجنون أم ماذا؟ أنا لم أنكر قيامه فسق الخبر كما هو، زيد قائم أو قام زيد.
أما إذا رأيت في ذهنه أو في القرائن التي أحاطت به أن لديه إنكارًا، فسق من كلامك ما يزيل ذلك الإنكار، ويفصل البلاغيون في مقامات الخبر وفي أضربه، فقد يكون الخبر ابتدائيًا عطلا من المؤكدات إذا كان المقام يقتضي سوق الكلام أو الخبر غير مؤكد، وقد يكون طلبيًا يحتاج ذهن المخاطب إلى أن يزال الشك أو الإنكار الذي في ذهنه فيساق بمؤكد واحد، أما إذا كان الخبر أو المقام إنكاريًا، والمخاطب أمامك منكراً ما تقوله عندئذ يقتضي الأمر أن تؤكد بأكثر من مؤكد، بالقسم أو بإن أو باللام أو بالجملة الاسمية أو بها جميعًا، فالمقام عندئذ هو الفيصل في هذا، ولعلنا نقرأ عن المؤلفين ما كتباه في هذا المعنى. تفضل يا أخي.
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد، يقول المؤلف: (أما البلاغة فهي تأدية المعنى الجليل واضحًا بعبارة صحيحة فصيحة لها في النفس أثر خلاب، مع ملائمة كل كلام للموطن الذي يقال فيه، والأشخاص الذين يخاطبون).
لعلك تترسل في قراءتك وتتئد ونريد أن تكون قراءتك أشبه بالديمة الهطلاء التي تنفع الأرض ولا يذهب ماؤها عن أنواعها إلى غيرها فالاتئاد والرفق طيب جدًا خاصة في مقام القراءة.
المؤلفان -رحمهما الله- ذكرا المعنى الاصطلاحي للبلاغة بالإشارة العامة عندما قالا: (أما البلاغة فهي تأدية المعنى الجليل واضحًا بعبارة صحيحة فصيحة) (صحيحة فصيحة): يشيران إلى الشروط الواجب توافرها في الكلمة نفسها وفي الكلام نفسه، لابد من هذا الشرط، ثم --أيضا-ً- قالا: (بعبارة صحيحة فصيحة لها في النفس أثر خلاب) وهذا يعود إلى انتقاء الألفاظ، (مع ملائمة كل كلام للموطن الذي يقال فيه) هنا المطابقة التي ذكرها الخطيب القزويني: (مطابقة الكلام الفصيح لمقتضى الحال).
الملائمة: تعني المطابقة وهي المناسبة والمراعاة والملاحظة فهذه لابد منها بحيث تلحظ المقام أو الحال التي قيل فيها ذلك الكلام، فلابد من مواءمة الكلام نفسه للمقام نفسه حتى يلتئم ويحقق المراد.
ثم قال: (مع ملائمة كل كلام للموطن الذي يقال فيه والأشخاص الذين يخاطبون) أي.. تلاحظ نفسياتهم، وتلاحظ -أيضا- قدراتهم، وتلاحظ -أيضا-ً ثقافتهم وعقولهم، وهذا هو المعنى الذي أشار إليه الإمام علي -رضي الله تعالى عنه- عندما قال وأثر عنه قوله: «خاطبوا الناس على قدر عقولهم، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!!» فالمتكلم أو الخطيب أو الكاتب عندما يكتب شيئًا أو يقول شيئًا ينبغي أن يلاحظ من يقرأ أو من يسمع، إن كان متكلمًا يلاحظ من يسمع، إن كان كاتبا يلاحظ من يقرأ فيسوق كلامه وينزله وفق أقدار عقول هؤلاء وعلى مستوى أفهامهم، فإذا استطاع أن يصل بكلامه وبجمله وباستشهاداته وأدلته إلى أن يلاءم مداركهم وعقولهم فقد وفق وكان بليغًا في كتابته أو في كلامه، أما إن علا كلامه أو مستواه -علا وارتفع أو تنزل وانخفض- فعندئذ لم يوفق ولم يكن بليغًا، وإن كان كلامه -أصلاً- فصيحًا لا غبار عليه وليس ملحونا وليس فيه خطأ نحوي أو لغوي، لكن العبرة أنه لم يوفق في المقام، وهكذا الدعاة، ولهذا نلحظ حكمة الباري -جل وعز- عندما قال ووجه خطابه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- أول الدعاة وقائدهم عندما قال: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ [النحل: 125] فبدأ بالحكمة قبل الموعظة الحسنة وقبل الجدال، لماذا؟ لأن من الحكمة أن ترى وأن تنظر في عقول من أمامك فتختار الخطاب للمناسب لهم، فالبلاغة عندئذ هي الحكمة، يصح أن يقال: إن البلاغة هي الحكمة، والحكمة هي البلاغة، والحكمة وضع الشيء -قولاً كان أو فعلاً- في موضعه المناسب ومكانه اللائق به، بحيث لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه، ولهذا إذا فعلت ذلك ووفقت في ذلك كنت حكيمًا في هذا، -ولهذا كما ذكرنا- البليغ هو الحكيم، والحكيم هو الذي يضع قوله ومقالاته وكلماته في المواضع اللائقة بها ويناسب ويلاحظ أقدار ومستويات السامعين.
(فليست البلاغة -قبل كل شيء- إلا فنًا من الفنون يعتمد على صفاء الاستعداد الفطري، ودقة إدراك الجمال، وتبين الفروق الخفية بين شروط الأساليب، وللمرانة يد لا تُجحد).
المؤلفان كأنهما يجيبان عن سؤال انقدح من خلال الكلام المتقدم، كيف السبيل إلى البلاغة؟ كيف السبيل إلى الوصول إلى هذه القمة وإلى تلك الأساليب البيانية المؤثرة؟
قالا: (وللمرانة يد لا تُجحد) يعني التمرن في هذا السبيل والتمرس على أساليب البيان والبلاغة هي السبيل -تقريبًا- الذي يمكن أن يسلكه طالب البلاغة والسائل عن أساليبها.
(وللمرانة يد لا تُجحد في تكوين الذوق الفني وتنشيط المواهب الفاترة، ولابد للطالب إلى جانب ذلك من قراءة طرائف الأدب والتملؤ من.. الفياض، ونقض الآثار الأدبية والموازنة بينها وأن يكون له من الثقة بنفسه ما يدفعه إلى الحكم بحسن ما يراه حسنًا، وبقبح ما يعده قبيحً).
إذن عندنا سبيلان للوصول أو للرقي إلى أساليب البلاغة:
السبيل الأول: الذي عده المؤلف، هو -الحقيقة- الأصل أن يؤخر ويقدم،الأصل أن يقدما القراءة في أساليب البلغاء والنظر في بيانهم على الدربة والمران، لأن المتدرب يحتاج إلى مثال يحتذيه وإلى طريق يسلكه، وإلى نماذج يقلدها، فالأصل أن يقدما في كلاميهما أو أن يؤخرا، فالأولى أن يقال لطالب البلاغة: عليه أن يحتذي بأساليب البلغاء، وأعظم -كما ذكرنا- وأبلغ أسلوب هو أسلوب كلام الله -عز وجل- في الذكر الحكيم، ثم يليه في مرتبة البلاغة والبيان كلام المصطفى -عليه الصلاة والسلام-، ثم يلي ذلك كلام الشعراء البلغاء والكتاب البيانيين والكتاب الذين أجادوا وأبانوا، فهذه الأساليب -الحقيقة- تنشط القارئ وتدرب لسانه وتكسب لغته ثراءً -و-أيضاً- وتصقل ذائقته اللغوية، وتعطيه دربة وأساليب رائعة جدًا وتنقذه في الحاجات أو في المواقف التي يحتاج فيها إلى بيان وإلى إثراء.
(وليس هناك من فرق بين البليغ والرسام، إلا أن هذا يتناول المسموع من الكلام، وذلك يشارك بين المرئي من الألوان والأشكال، أما في غير ذلك فهما سواء، فالرسام إذا هم برسم صورة فكر في الألوان الملائمة لها، ثم في تأليف هذه الألوان بحيث تختلب الأبصار وتثير الوجدان، والبليغ إذا أراد أن ينشئ قصيدة أو مقالة أو خطبة فكر في أجزائها ثم دعا إليه من الألفاظ والأساليب أخفها على السمع، وأكثرها اتصالاً بموضوعه ثم أقواها أثرًا في نفوس سامعيه، وأروعها جمال).
المؤلف هنا وازن بين البليغ وبين الرسام، يعني مثل البليغ برسام يرسم شجرة أو لوحة أو كذا، يوازن بينهما وبين الطبيعة أو بين ماهية الطبيعة فيحتذيها ويشاكلها وينمق ويجمع الألوان اللائقة والمناسبة فيشكلها، كذلك البليغ عندما يأتي إلى موضوع ما أو كذا ثم يفكر فيه: يفكر في مقامه، وفي داعيه أو دواعيه، يختار عندئذ الألفاظ والمعاني اللائقة به، المعاني هي موجودة في ذهنه غالبًا، لكنه ينتقي الألفاظ المناسبة التي تلاءم هؤلاء أو تلاءم المقامات، فإذا وفق في ذلك كان بليغًا، كما أن الرسام نفسه إذا وفق في إتقان لوحة ما كان فنانًا متقنًا ومبدعًا في لوحته تلك.
(عناصر البلاغة إذن لفظ ومعنى، وتأليف للألفاظ يمنحها قوة وتأثيرًا وحسنًا، ثم دقة في اختيار الكلمات والأساليب على حسب مواطن الكلام ومواقعه وموضوعاته وحال السامعين والنزعة النفسية التي تتملكهم وتسيطر على نفوسهم).
لعلك تنتقل إلى أمثلة كانت حقيقة هي فصيحة في كلماتها أو في كلماتها مستقلة وفي كلامها متسقًا لكن أصحابها -مع أنهم مشهود لهم بالبيان والبلاغة- لم يوفقوا، لماذا؟ لأنهم لم يوفقوا إلى تلبية المقام، وإيفائه حقه ومراعاته، فعدت عليهم سقطات.
(ورب كلام كان في نفسه حسنًا خلابًا، حتى إذا جاء في غير مكانه وسقط في غير مسقطه، خرج عن حد البلاغة، وكان غرضًا لسهام الناقدين، ومن أمثلة ذلك قول المتنبي في كافور الإخشيدي في أول قصيدة مدحه بها:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيًا ** وحسب المنايا أن يكن أمانيَ).
عجيب أن يقابل المتنبي كافورا الإخشيدي وهو حاكم مصر في ذلك الزمان بهذا البيت في أول قصيدة مدحه بها "كفى بك داءً أن ترى الموت شافيًا" أي: أنه قد بلغ بك الأمر وشدته إلى أن ما بك من ألم وحسرة لا يكاد يشفيها إلا الموت، يعني أشبه بالانتحار -نسأل الله العافية-، ثم قال: "وحسب المنايا أن يكن أماني" أماني جمع منية وهي الموت نفسه، صار الموت -الذي يكرهه الناس- صار أمنية ومطلبا، أن يفتتح قصيدته أمام الأمير بهذا المطلع لاشك أنه لم يوفق، وإن كان البيت في حد ذاته من حيث فصاحة ألفاظه ورصفها وجودتها وخلوها من المعايب اللفظية هذا البيت سليم من هذا الباب، ولكنه لم يوفق من حيث المقام.
ليس هو للمقام.
نعم.. لم يوفق، فالبيت فصيح لكنه غير بليغ.
(وقوله في مدحه:
وما طربي لما رأيتك بدعة ** لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب).
هو يقول: "وما طربي لما رأيتك بدعة" يخاطب كافوراً الأمير يقول: إنني عندما رأيتك طربت، وليس هذا بدعًا ولا غريبًا، كنت أرجو أن أراك فأطرب، يعني كأن الأمير من المضحكات، أنه إذا رآه ضحك وطرب كأنما هو قرد أو شيء يستجيش ضحكه أو يستثير -أيضا-ً عاطفة الضحك والسخرية، وهذا لاشك أنه غير موفق فيه، ولهذا لحظ النقاد عليه -كما سيأتي-.
(قال الواحدي).
الواحدي هو أحد شراح ديوان أبي الطيب.
(قال الواحدي: هذا البيت يشبه الاستهزاء، فإنه يقول: طربت عند رؤيتك كما يطرب الإنسان لرؤية المضحكات.
قال ابن جني).
هذا -أيضا-ً ابن جني العالم اللغوي المشهور، هو -أيضا-ً أحد شراح ديوان أبي الطيب واسم شرحه "الفسر".
لما قرأت على أبي الطيب هذا البيت قلت له: ما زدت على أن جعلت الرجل قردًا فضحك).
(ما زدت على أن جعلت الرجل قردً) يعني يثير الضحك، ولاشك أن هذا المقام لا يليق ولكن أبا الطيب -كما نعلم- هو طامع في إمارة ويرى نفسه أعلى من كافور الإخشيدي، ومثل ما ذكر الشارحان -بعد قليل- أن تلك فلتات خرجت على لسانه سواءً شعر أو لم يشعر، يعني كأنما هي تعبر عن طموحه وأن الذي أمامه لا يلبي طموحه، أو هو فوق طموحه.
حكم على نفسه ب...
(ونرى أن المتنبي كان يغلي صدره حقدًا على كافور، وعلى الأيام التي ألجأته إلى مدحه، فكانت تفر من لسانه كلمات لا يستطيع احتباسها، وقديما زل الشعراء لمعنى أو كلمة نفرت سامعيهم فأخرجت كلامهم عن حد البلاغة، فقد حكوا أن أبا النجم دخل على هشام بن عبد الملك وأنشده:
صفراء قد كادت ولما تفعل ** كأنها في الأفق عين الأحول
وكان هشام أحول فأمر بحبسه)
عجيب أن يفتتح قصيدته أمام الخليفة هشام بن عبد الملك بهذا البيت، وإن كان هو في وصف الشمس عند غروبها، هي صفراء وهي عند غروبها عندما تتضيف الشمس للغروب تصبح كأنما تستقل، أو كأن شعاعها يستجف قليلاً، وعين الأحول تراها غير مستقرة، فظن الخليفة هشام أنه يقصده بهذا، فأمر بحبسه مع أنه مقرب إليه، من الرجاز في العصر الأموي، من الشعراء المعروفين، ومع ذلك لأنه لم يوفق في مقام بيته هذا نال ذلك الجزاء، ومثله جرير الشاعر المشهور الفحل، فإنه دخل يومًا على عبد الملك بن مروان وأنشده قصيدة مشهورة والتي افتتحها بقوله:
أتصحو أم فؤادك غير صاحٍ ** عشية هم صحبك بالرواح
فهو كأنما يخاطب عبد الملك بن مروان بهذا البيت "أتصحو أم فؤادك غير صاحٍ" فقال له الخليفة عند ذلك: "بل فؤادك أنت يا ابن الفاعلة غير صاحٍ" هو رد عليه، جرير حقيقة هو من حيث الموضوعية لم يخطئ جرير في ذلك، لأن هذا الذي انتهجه هو أسلوب من أساليب العرب، يسمى التجريد في علم البديع المعنوي، وهو أن يجرد المتكلم من نفسه ذاتا أخرى يخاطبها ويخلع عليها النعوت والصفات فيكون أعذر له، فيكون ذلك أعذر له، فيفضي إليها ما شاء من الآهات والأنات والعتاب وغير ذلك، كما فعل الأعشى في قصيدته اللامية المشهورة "ودع هريرة" ويريد به نفسه، يعني كأنما جرد الأعشى من ذاته ذاتًا أخرى بجواره يخاطبها:
ودع هريرة إن الركب مرتحل ** وهل تطيق وداعًا أيها الرجل
غراء فرعاء مصقول عوارضها ** تمشي الهوين كما يمشي الوجد الوحل
كأن مشيتها من بيت جارتها ** مر السحابة لا ريث ولا عجل
فإنما يريد ذاته، -أيضا-ً جرير بن عطية هنا الشاعر الأموي المشهور هو يريد ذاته عندما قال: "أتصحو" يريد ذاته، جرد من ذاته ذاتًا أخرى، ولكن عبد الملك وبخاصة أنه مطلع القصيدة، فهم أنه يريده، فعاتبه على هذا المطلع، فالبيت فصيح ولكنه غير بليغ لأنه لم يوفق في المقام.
(ومدح جرير عبد الملك بن مروان بقصيدة مطلعها: "أتصحو أم فؤادك غير صاحٍ" فاستنكر عبد الملك هذا الابتداء وقال له: بل فؤادك أنت.
ونعى علماء الأدب على البحتري أن يبدأ قصيدة منشدها أمام ممدوحه بقوله: لك الويل من ليل تقاصر آخره).
نعم.. كأن يخاطب ممدوحه بهذا الويل والثبور وغير ذلك هذا غير موفق، وإن كان -أيضا-ً على طريقة التجريد، لكنه لم يوفق في ذلك.
وعابوا على المتنبي قوله في رثاء أم سيف الدولة:
صلاة الله خالقنا حنوط ** على الوجه المكفن بالجمال
قال ابن وكيل: إن وصفه أم الملك بجمال الوجه غير مختار).
المقام مقام رثاء وبكاء وموت، فما دخل الجمال في هذا المقام في هذه الآية، لم يوفق -أيضا-ً أبو الطيب في هذا المقام في وصف أم سيف الدولة بالجمال في مقام الموت والعزاء وما تعلق به.
إذن مثل هذه النصوص هي فصيحة، ولكنها غير بليغة لأنها لم توافق المقام ولم يوفق قائلها في الالتئام والمطابقة بالحال.
(وفي الحق أن المتنبي كان جريئًا في مخاطبة الملوك، ولعل لعظم لطفه وعبقريته شأنًا في هذا الشذوذ).
المؤلفان يكادان يصدران في هذا تلخيصًا عامًا وتوجيهًا لكل مريد للبلاغة، توجيهًا مركزًا وتلخيصًا عامًا لمن يريد أن يصل إلى مقامات البلاغة في كلام موجز دال.
(إذن لابد للبليغ أولاً من التفكير في المعاني التي تجيش في نفسه، وهذه يجب أن تكون صادقة ذات قيمة وقوة يظهر فيها أثر الابتكار وسلامة النظر، ودقة الذوق في توثيق المعاني وحسن تقييدها، فإذا تم له ذلك عمد إلى الألفاظ الواضحة المؤثرة الملائمة فألف بينها تأليفًا يكسبها جمالاً وقوة، فالبلاغة ليست في اللفظ وحده).
ليست في اللفظ وحده، هذه مسألة.
(وليست في المعنى).
كذلك ليست في المعنى وحده.. نعم.
(ولكنها أثر لازم لسلامة تأليف هذين وحسن انسجامهم).
اثر لازم لسلامة تأليف هذين العنصرين وحسن انسجامهما وينضم إلى ذلك عنصر ثالث وهو الموائمة أو المطابقة للمقام، لابد من هذا، المقام هو الحكم والفيصل، والحال الذي يقتضي أو يستدعي إيجازًا أو إطنابًا أو قوة أو سهولة أو ضعفًا أو غير ذلك هو العمود الفقري للبلاغة نفسها، فمن وفق في هذا وطابق في كلامه ومعانيه المقامات والأحوال ونزل كلامه على مستويات الناس كان عندئذ بليغًا.
وبالمناسبة هنا لابد من الحديث لإيجاد الفرق بين الفصاحة والبلاغة:
-الحقيقة- بعض العلماء يفرق بين الفصاحة والبلاغة بأمور، ويعد بعضهم الفصاحة أنها تعنى بالألفاظ وبآلة البيان وهي اللسان، فهي معنية بالألفاظ من حيث سلامتها وبعدها عن الغرابة، وسلامة الكلمة نفسها من التنافر ومن -أيضا-ً المخالفة للقياس النحوي أو الصرفي، كذلك الألفاظ: بعدها عن القلق وعن الركاكة وعن الغموض، كل ما يعنى بآلة البيان وهي اللسان تعنى به الفصاحة لأنها قائمة على الوضوح وعلى النصاحة وعلى الانكشاف، أما البلاغة فإنها تكاد تعنى بالمعاني وبالمقامات، هذا أمر.
الأمر الثاني: أن الفصاحة أعم من البلاغة، لأنها معنية بعناصر ثلاثة:
معنية بالكلمة، فيقال: كلمة فصيحة.
ومعنية -أيضا-ً: بالكلام، فيقال: كلام فصيح.
ومعنية بالمتكلم، فيقال: متكلم فصيح.
أما البلاغة فهي أخص من الفصاحة، لأنها معنية بعنصرين: بالكلام نفسه وبالمتكلم، أما الكلمة فلا توصف الكلمة -مفردة أو مستقلة- بأنها بليغة، نقول: جاهد أو ذهب أو قاتل، أي شيء من ذلك لا يقال له هذه الكلمة بليغة، لأن دلالة الكلمة لا تظهر بشكل مؤثر إلا في كلام متسق منتظم، ولكن يقال: كلام بليغ إذا حقق المراد أو أصاب الغرض والمحز، ويقال -أيضا-ً: متكلم بليغ إذا أصاب الغرض ووافق في كلامه المقام.
فالفصاحة -عندئذ- أخص من البلاغة.
فأصبح عندنا من الممكن القول: إن كل كلام بليغ لابد -أصلاً- أن يكون فصيحًا، لماذا؟ لأن من شرط بلاغته أن تكون كلماته مفردة ومركبة فصيحة، وليس كل كلام فصيح بليغًا، لأن الكلام يبقى فصيحًا ولكنه إن وافق المقام وطابقه ووفاه والتأم معه كان بليغًا، وإن لم يوافق المقام ويلتئم معه ويطابقه فإنه عندئذ يبقى فصيحًا ولكنه غير بليغ، فبينهما عموم وخصوص.
بين الفصاحة والبلاغة عموم وخصوص: فكل كلام فصيح ليس بالضرورة أن يكون بليغًا، لأنه قد يكون قاصرًا عن توفيته للمقام ومناسبته له، ولكن كل كلام بليغ لابد أصلاً أن يكون فصيحًا، مثل الإسلام والإيمان، بينهما عموم وخصوص، إذا أطلقت الكلمتان (الإسلام والإيمان)، فعندئذ كل لفظة تذهب إلى دلالتها، الإسلام يذهب إلى الشعائر كالصلاة والصيام والحج ونحوه، والإيمان يذهب إلى ما وقر في القلب وهو أركان الإيمان المعروفة في حديث جبريل: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره)، فإذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.
كذلك الفصاحة والبلاغة إذا اجتمعتا افترقتا، وإذا افترقتا اجتمعتا، بمعنى: إذا قيل: هذا كلام فصيح بليغ، ذهبت الفصاحة إلى سلامة ألفاظه من القوادح، وتحقق شروط الفصاحة فيها، وذهبت دلالاته وموافقاته إلى أنه قد وافق المقام والتأم معه، وأصابه فكان بليغًا.
ولكن لو أطلق وقيل: ألقى فلان -مثلاً- كلمة بعد صلاة المغرب وكانت فصيحة مؤثرة، فمعنى ذلك أنها بليغة، لأن سياق الإشادة بها يدل على أثرها وقوة بلاغتها، لكن -أيضا-ً لو قيل: ألقى -ما شاء الله- فلان بعد المغرب في المسجد الفلاني كلمة بليغة، معنى ذلك أنها فصيحة، لأنها لن تصل إلى مستوى التأثير من خلال وصفها بالبلاغة إلا من خلال فصاحة ألفاظها وجودة أسلوبها، فبينهما عموم وخصوص.
بمناسبة الكلام على الفصاحة والبلاغة وما بينهما من فروق: من محاسن هذا المؤلف وهو كتاب "البلاغة الواضحة" أن المؤلفين عقدا تلخيصًا أو إشارةً إلى أنواع الأساليب التي ينتهجها الناس الآن في كتاباتهم، فذكرا الأسلوب العلمي، والأسلوب الأدبي، والأسلوب الخطابي، وهذه أشهر الأساليب السائدة حاليًا في الصحف والمجلات والكتب وغيرها، وهذه بمناسبة الكلام عن الفصاحة والبلاغة، لأن الفصاحة إذا تمت شروطها والبلاغة -أيضا-ً إذا تم شرطها وهو موافاة المقام أو مناسبته أو مطابقته عندئذ يخرج عن المتكلم أسلوب، لا يخلو إما أن يكون ذلك الأسلوب علميًا له صفاته، أو أدبيًا له صفاته، أو خطابيًا له صفاته، ونحن الآن سنتعرف على صفات كل واحد من هذه الأساليب الثلاثة.
(بعد هذا يحسن بك أن تعرف شيئًا عن الأسلوب الذي هو المعنى المصوغ في ألفاظه مؤلفة على صورة تكون أقرب لنيل الغرض المقصود من الكلام، وأفعل في نفوس سامعيه. وأنواع الأساليب ثلاثة:
الأسلوب الأول: الأسلوب العلمي، وهو أهدأ الأساليب وأكثرها احتياجًا إلى المنطق السليم والفكر المستقيم، وأبعدها عن الخيال الشعري لأنه يخاطب العقل، وينادي الفكر ويشرح الحقائق العلمية التي لا تخلو من غموض وخفاء.
وأظهر ميزات هذا الأسلوب: الوضوح، ولابد أن يبدو فيه أثر القوة والجمال، وقوته في سطوع بيانه ورصانة حججه، وجماله في سهولة عباراته، وسلامة الذوق في اختيار كلماته، وحسن تقريره المعنى في الأفهام من أقرب وجوه الكلام، فيجب أن يُعنى فيه باختيار الألفاظ الواضحة الصريحة في معناها الخالية من الاشتراك، وأن تؤلف هذه الألفاظ في سهولة وجلاء، حتى تكون ثوبًا شفًا للمعنى المقصود).
أو شافًا، يجوز شفًا أو شافًا.. نعم.
(وحتى لا تصبح مثارًا للظنون، ومجالاً للتوجيه والتأول).
هذا هو الأسلوب العلمي الدقيق، معني باختيار الألفاظ، تكون الألفاظ دالة، ولا يختار الكلمة إلا لمكانها، هل تؤدي المقصود؟ وهل تؤدي المراد أو لا؟ إذن الألفاظ الخيالية أو الألفاظ العاطفية والألفاظ العامة الفضفاضة المترادفات وغير ذلك تكاد تكون معدومة في هذا الأسلوب، وإنما يركز على ما يؤدي المراد، وأبرز مثال على ذلك هو الكتب المنهجية الدراسية، بشكل عام، وبخاصة ما يتعلق بالمقررات العلمية كالعلوم والرياضيات أو الفقه أو الحديث أو الأصول أو غير ذلك، الغالب أن أساليبها علمية وألفاظها قد دقق في اختيارها بحيث تؤدي المقاصد ولا تجد فيها خيالاً أو عاطفة أو ألفاظًا مترادفة مما نجده عند الأسلوب الأدبي الذي هو صنو الأسلوب العلمي.
(ويحسن التنحي عن المجاز والمحسنات البديع في هذا الأسلوب، إلا ما يجيء من ذلك عفوًا من غير أن يمس أصلاً من أصوله، أو ميزة من ميزاته).
اتضح الآن الأسلوب العلمي، ننتقل إلى الأسلوب الأدبي.
(ثانيًا: الأسلوب الأدبي: والجمال أبرز صفاته، وأظهر مميزاته ومنشأ جماله ما فيه من خيال رائق وتصوير دقيق, وتلمس لوجوه الشبه البعيدة بين الأشياء، وإلباس المعنوي ثوب المحسوس، وإظهار المحسوس في صورة المعنوي).
إذن هذا عكس الأسلوب السابق، وهو أن يكون عامرا بالأخيلة والصور والعواطف والمؤثرات والأمور -أيضاً- المؤثرة في السامع، وأبرز مثالٍ على هذا القصائد الشعرية، والكتب الأدبية، والقصص، والروايات العامرة بالأساليب الخيالية المصطنعة أو الواقعية المصورة تصويرًا حيًا.
ما تخلو من أفكار علمية ربما، في السياق الأدبي.
ممكن هذا، ولهذا تجد أن بعض العلماء أو بعض المفكرين والمعاصرين يمزجون بين الأسلوبين، يقول: الأسلوب العلمي المتأدب.
وهو أفضل أسلوب.
أي نعم، لأنه يشهر الحقائق العلمية في لباس أدبي، وتجده أمثل ما يكون فيما قرأت لشيخ الإسلام ابن قيم الجوزية، تجد أن أسلوبه مشرق، هو أسلوب علمي صحيح، لكنه يكسوه بكسوة الأدب، ويحليه بحلية الأدباء في ألفاظه، لهذا لا تكاد تمل من قراءتك إياه، يثريك ويغذيك ويمتعك، و-أيضا-ً عباراته وانتقاؤه لعباراته رائع جدًا في كثير من كتبه، تجد هذا في "زاد المعاد" تجده -أيضا-ً في "طريق الهجرتين".
كذلك الجاحظ في كتابه "الحيوان".
الجاحظ هذا يكاد يكون متسما بالأسلوب الأدبي في "الحيوان"، أو في...
الأدبية أو العلمية حول ذلك.
هو يصوغ هذه الأشياء لكن عباراته يغلب عليها الجانب الأدبي، أسلوب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هو -أيضا-ً أسلوب علمي متأدب وإن كان يجنح إلى الأسلوب العلمي الجاد، وإن كان في منطق الفلسفة تجد أنه يغلب فيه مجالاً، أو في اللغة كذلك، لكنك تلمح -أيضا-ً في بعض تقليب عباراته لباسًا ووشاحًا أدبيًا، فهو عكس تلميذه وتلميذه عكسه، ابن القيم -رحمه الله الجميع- ينزع إلى الأسلوب الأدبي، وإن كانت حقائقه علمية، وشيخ الإسلام ينزع إلى الأسلوب العلمي وإن كان بعض شوب ألفاظه أدبية، والحقيقة أنني استفدت من أسلوب الشيخين، أسلوب شيخ الإسلام وأسلوب تلميذه ابن القيم، كلاهما الحقيقة يثريان القارئ وينوعان، إضافة إلى سلامة منهجيهما وقوة استدلالهما وأنهما -أيضا-ً يرسمان للقارئ المنهجية العلمية الدقيقة.
يمكن أن تقرأ الأسلوب الخطابي لأنه عندنا بعض التنبيهات على بعض الأساليب الخاطئة في العبارات الدارجة.
يقول:
السؤال الأول: أيهما أفضل؟ الوقوف على ساكن في كلامنا العربي أو متحرك؟ تقول مثلاً: "جاء زيدٌ" أو تقول: "جاء زيد"؟ وقس على ذلك يا شيخ، في كلامنا كثير؟
السؤال الثاني: تكلم الدكتور -قبل قليل- عن كتاب ابن القيم الجوزية قال: يكسيه، أهي يكسيه أم يكسوه؟ الأبلغ أعني.
الفعل واوي، إن كنت قلت: "يكسيه" فقد أخطأت، لا، هو "يكسوه" من كسا يكسو، فهي ذلة لسان، وأحسنت في ذلك.
إذا أردت أن تسلم فسكن.
هذه لغة الضعيف أو حجة الضعيف الحجة، والصحيح ما أثر عن العرب أنك لا تبدأ بساكن ولا تقف على متحرك، وأنت إذا وصلت الكلام فلابد أن تحرك أواخر الكلم، وهذا معنى الإعراب، والإعراب هو الإفصاح والإظهار، أعرب فلان عما في نفسه إذا أظهر وكشف ، فعند القراءة أو عند الكلام لا تقف على متحرك، تقول: "قام زيدٌ" لا.. "قام زيد" أما إذا وصلت "قام زيدٌ وذهب إلى كذا وكذا" عند الوصل تحرك، أما عند الوقف فتسكن، أما عند الابتداء فإنك -أيضا-ً تحرك ولو كان همزة وصل، همزة وصل تحركها، استغفر فلان أو استكمل دراسته كذا، لكنك عند وصلها صلى فلان واستغفر، تكون عندئذ ساكنة غير منطوق بها، فعند وصلك الكلمات عند وصلك في درج الوصل تحرك، وإذا وقفت فتسكن، لا يعني هذا أن القارئ عندما يقرأ يقف على أواخر الكلم بحيث لا يظهر، حتى يسلم من بيان الأثر الإعرابي، هذا -كما ذكرنا- حجة أو طريقة الضعيف، وإنما القوي في عربيته المبين في كلماته المفصح عن دلالات الألفاظ هو الذي يحرك عند الوصل، وفي الوقف ذاته يقف على ساكن عند الوقف في مواقعه.
وهذه تأتي بالدربة والمران.
لا شك، الدربة والمران لهما الأثر.
سنلقي على التدريب يا شيخنا، أتمنى أن يعطى المشاهد الكريم مجموعة من الطرق التدريبية التي من خلالها يستطيع أن يتحدث حديثًا كاملاً بإذن الله.
الأسلوب الخطابي لعلك تعرض له.
(الأسلوب الثالث: الأسلوب الخطابي: هنا تبرز قوة المعاني والألفاظ، وقوة الحجة والبرهان، وقوة العقل الخفيت، وهنا يتحدث الخطيب إلى إرادة سامعيه بإثارة عزائمهم واستنهاض هممهم، ولجمال هذا الأسلوب ووضوحه شأن كبير في تأثيره ووصوله إلى قرارة النفوس، ومما يزيد بتأثير هذا الأسلوب منزلة الخطيب في نفوس سامعيه وقوة عارضته وسطوع حجته ونبرات صوته وحسن إلقائه ومحكم إشاراته).
معروف الخطبة لها أثر، و-أيضا-ً ينبغي أن يكون الخطيب على مستوى من اللغة العربية من حيث صحة التعريف وسلامته وجودته وبعده عن اللحن، وبالمناسبة بالنسبة لخطب الجمع بالذات التي يعيشها الناس ويسمعونها ينبغي أن يكون الخطيب حصيفًا حكيمًا في إيراده لجمله وانتقائه -أيضا-ً لموضوعاته المناسبة لعصره وأن تكون -أيضا-ً مناسبة للمقام، و-أيضا-ً يكون غرضه -أيضا-ً بيان الأحكام الشرعية التي تهم الناس وتمس أحوالهم، وبيان -أيضا-ً التوجيهات الشرعية ووجهات النظر الشرعية المناسبة والتي هم بحاجة إليها.
كذلك ينبغي أن لا يستغل منبره بعض الناس يستغل المنبر فيطيل على السامعين، و-أيضا-ً يمللهم والحقيقة أن معيار نجاح الخطيب في خطبته أن عقلاء الناس إذا خرجوا من مسجده أو انتهت الخطبة قالوا: ما أجملها، ما أحسنها، ليته أطال، فهذا معيار النجاح، ولكن إذا حصل العكس وقالوا: ليته قصر، هذا معيار الإخفاق، فلابد للخطيب أن يقصر قدر الإمكان والرسول -عليه الصلاة والسلام- لنا فيه الأسوة الحسنة، كان كما أثر عنه كانت صلاته قصداء وخطبته قصداء، كان يجمل -عليه الصلاة والسلام- حتى إن العاد لو شاء أن يعد كلماته لعدها، ولذلك حفظت أحاديثه لترسله وتمهله و-أيضا-ً إيجازه -عليه الصلاة والسلام-، كذلك لابد أن ينوع في الأسلوب وأن يركز وأن يسلم من اللحن وأن يحسن الاستشهاد في مقاماته، المهم أن لا يطيل على الناس؛ لأن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة والعامل والطفل والصغير وغير ذلك من أمراض العصر التي جدت في الناس.
كما قال -عليه الصلاة والسلام-: قصر خطبته وطول صلاته مئنة لفقهه.
صحيح.. قصر خطبة الرجل وطول صلاته مئنة: أي: علامة، على فقهه.
بمناسبة الإشارة إلى بعض الأساليب يحسن أن نشير إلى بعض الأخطاء الأسلوبية الشائعة في الصحف أو في المجلات أو عند الناس أو في عباراتهم:
من مثل ذلك: تكرار كلمة "كلما". يقولون: كلما ارتفعت الشمس كلما زاد الحر، كلما الثانية لا يصح إيقاعها، لماذا؟ لأن "كلما" شرطية تفتقر إلى فعل وإلى جواب. كلما ارتفعت الشمس جوابها: زاد الحر.
لو أتيت بـ"كلما" افتقرت هي نفسها إلى جواب فيلزم الدور كما قال المناطقة. ولكن الصحيح أنك تحذف "كلما" الثانية، ووجودها حشو ولغو وغلط، فتقول: كلما ارتفعت الشمس زاد الحر، مثلاً هذا مثال.
من الأخطاء -أيضا-ً الشائعة اقتران "ال" التعريف بكثير أو غير، فيقولون مثلاً: جاء الكثير من القوم، أو ذهبت إلى الغير، هذا من الأمور الغير مفيدة.
كان خطًأ يا شيخ على عدم القياس مثلاً؟ لا يوجد قياس.
من حيث السماع عن العرب، فيما أعلم أنه من حيث السماع عن العرب، لأنه لم يؤثر عنهم أن كثيرًا وأن غيرًا تأتي معرفتين بـ"ال" بل تأتيان منكرتين، ويمكن أن تضيف هذا الشيء، أو غيرهم "ذهب غيرهم إلى كذا وكذا" أما أن تقول: "ذهب الغير" أو "ذهب الكثير" هذا خطأ شائع فيما أعلم.
كذلك مما ينال من الفصاحة -أيضا-ً عطف مضاف على مضاف آخر لم يستوف الأول حقه من الإضافة، -مثلاً- يقولون: الشركة الفلانية قامت بإنتاج وتوزيع وبيع كذا وكذا وكذا، المضاف الأول يحتاج إلى مضاف إليه، قامت الشركة الفلانية بإنتاج -مثلاً- صحف، وتقول: وتوزيعها وبيعها، ممكن أن تعطف على السابق وتضيف هذا المضاف إلى ضميره، أما أن تقول: قامت بإنتاج وتوزيع وبيع كذا فهذا ينال من فصاحة الكلام ومن جودته، وأثر أو قل قولهم: قطع الله يد ورجل من قالها، الأصل: قطع الله يد من قالها ورجله، فهذا ورد على ضعف.
-أيضا-ً من الأخطاء الشائعة في الاستبدال: أسلوب الاستبدال، يقولون مثلاً: استبدلت الصحيفة الفلانية مراسلها بمراسل آخر، ويدخلون الباء على الجديد المراسل الجديد، والصحيح أن الباء في أسلوب الاستبدال تدخل على المتروك في اللغة، ومن ذلك في التنزيل وهو أعلى كلام وأفصحه قوله -جل وعلا-: ﴿ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾ [البقرة: 61] فالمتروك الذي هو خير، والمأخوذ هو الأدنى، وصوابه أن يقال: استبدلت الصحيفة بمراسلها مراسلا آخر، الجديد هو الذي ليس فيه الباء، ومنه قوله -جل وعز-: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى ﴾ [البقرة: 175] اشتروا بمعنى استبدلوا، فالباء دخلت على المتروك.
أسئلة الحلقة.
السؤال الأول: ما الفرق بين الفصاحة والبلاغة؟
السؤال الثاني: متى يكون الكلام الفصيح بليغًا؟
السؤال الثالث: أيهما أعم "الفصاحة" أم "البلاغة"؟ ولماذا؟
من الأساليب الخاطئة -أيضا-ً عدم التفريق بين الاسم والمسمى، مثلاً قال: "غُيِّر مسمى جامعة الرياض إلى جامعة الملك سعود مثلاً، الصحيح أن يقال: غير اسم جامعة الرياض إلى اسم جامعة الملك سعود، لأن المسمى هو الذات، والاسم هو العنوان المطلق على الذات.
مثلاً: أنا اسمي ناصر، المسمى بناصر هو هذه الذات هذا الجرم هذه الجثة، نقول: هذا كتاب، اسمه "البلاغة الواضحة"، والمسمى بالبلاغة الواضحة هو هذا الجرم هذا الكتاب الذي بين أيدينا، فخلط الناس بين الاسم والمسمى هذا ذائع شائع، فالأولى أن يفرق بين المسمى وهو الذات، والاسم وهو العنوان المطلق عليه.
وبعضهم يقول: عملنا أو فعلنا تجارُب وعندنا تجرُبة لكذا، والصواب الكسر. لأنها من فعل جرَّب يجرِّب تجربة، وجمعها تجارِب، ليست (تجارُب).
و-أيضا-ً يقولوا: فلان لَغوي، وهذا من اللَغو بفتح اللام، والأصل لُغوي، أي مشتغل بعلم اللغة.
علك يا شيخ أن تحيلنا لكتاب.
سأذكر كتبا، لكن الحقيقة هناك أخطاء لا يحسن السكوت عليها، مثل -أيضا-ً تسمية الأسماء، يقولون مثلاً: فلان المحمد العبد الرحمن كذا وكذا، يعرف العبد ويلصقه بـ"ال" يوصلها وصلاً، فيكون العبد موصوفًا بأنه رحمن "محمد العبدالله" والأصل "آل عبد الله" بالفصل، "آل" يعني يرجعون إلى "آل عبد الله" أو كذا، "آل" بمعنى يؤول ويرجع، لا تكتب ملتصقة العبد.
-أيضا-ً ويقولون: استلم فلان البضاعة الفلانية، والاستلام للحجر: وهو مسه ومسحه، وأما الأصل تسلم بمعنى قبض البضاعة الفلانية أو الكتاب الفلاني.
أشير إلى بعض الكتب النافعة في هذا المقام.
لو إلى كتاب مهم جامع شامل يا شيخ للمشاهد.
"تثقيف اللسان وتلقيح الجنان" لابن مكي الصقلي.
معاصر؟.
ليس معاصرًا توفي سنة خمسمائة وواحد هجرية.
من المعاصرة.
من المعاصرة "معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة" لمحمد العدناني. وكذلك "الأخطاء الشائعة" لماجد الصائغ، وكذلك "أخطاء اللغة العربية المعاصرة عند الكتاب والإذاعيين" للدكتور أحمد مختار عمر، فهذا -أيضا-ً أو الكتب المفيدة "المدخل إلى تقويم اللسان" لابن هشام اللخمي، المتوفى سنة خمسمائة وسبعة وسبعين هجرية.
و هذا مهم حقيقة، فالغيرة على العربية من الغيرة على الدين، وهذا مهم جدًا.